عندما يلتقي التاريخ بالطبيعة.. تجربة حسن السدادي تضع عين اللوح على خريطة الثقافة الوطنية
حرية بريس
في قرية عين اللوح، على أبواب الأطلس المتوسط، يشكل حسن السدادي نموذجًا فريدًا لرجل اختار أن يواصل العطاء بعد التقاعد بطريقة غير مألوفة، مجسدًا بذلك صورة المثقف المرتبط بجذوره والمبدع الذي لا يعرف حدودًا بين الأدب والفن والطبيعة. فبعد أن قضى أربعين سنة موظفًا في قطاع المياه والغابات، قرر أن يجعل من مرحلة ما بعد العمل الإداري فرصة ثانية للكتابة والتأليف والإبداع الفني، ليُدخل اسمه في سجل الفاعلين الثقافيين الذين يساهمون في حفظ الذاكرة المحلية وإعطاء قيمة مضافة للتراث والبيئة.
السدادي أصدر سنة 2014 مؤلفه المرجعي “عين اللوح قرية على أبواب الأطلس المتوسط”، وهو كتاب جمع بين الطابع التوثيقي والتحليل السوسيولوجي والرؤية المستقبلية. في هذا العمل توقف عند تاريخ القرية وثقافتها ومؤهلاتها الطبيعية والبشرية، كما لم يغفل الإكراهات التي تواجهها، مقدّمًا مقترحات عملية للنهوض بها. الكتاب لم يكن مجرد سرد للأحداث أو وصف للمكان، بل جاء معززًا بصور ووثائق نادرة جعلت منه مصدرًا بصريًا ومرجعًا توثيقيًا للباحثين والمهتمين بتاريخ المنطقة.
وإذا كان هذا العمل يعكس وعيه بقيمة التوثيق، فإن شغفه بالإبداع تجسد أيضًا في مجالات أخرى، حيث يكتب الشعر باللغتين الفرنسية والأمازيغية، معبرًا عن انفتاح ثقافي ولغوي يعكس تنوع الهوية المغربية. لكن أبرز ما يميز مساره يبقى المتحف الإيكولوجي الذي أنشأه من الصخور والعناصر الطبيعية، ليحول الفضاء إلى لوحة حية تزاوج بين الفن والبيئة. المتحف ليس مجرد تجمع للأحجار، بل هو عمل فني قائم بذاته، أضفى عليه السدادي لمسة فنية باستخدام الألوان والريشة، ليمنحه روحًا وحياة ويجعله مشروعًا بيئيًا وجماليًا في آن واحد.
إلى جانب هذا الفضاء الفني، خصص السدادي جزءًا من منزله ليكون جناحًا للتاريخ والثقافة والفن، حيث يعرض صورًا ووثائق نادرة ذات قيمة كبيرة. ومن بين هذه المقتنيات تبرز وثيقة فريدة عبارة عن رسالة موجهة من السلطان محمد بن يوسف إلى القائد أمقور سنة 1946، يأذن له فيها بتأسيس مدرسة قرآنية بالمركز، مع تعيين مولاي المهدي العلوي مديرًا لها. هذه الرسالة السلطانية تضفي على المتحف قيمة تاريخية استثنائية، باعتبارها شهادة موثقة على اهتمام الدولة في تلك الفترة بدعم التعليم الديني ونشر المعرفة في المناطق القروية. وهي وثيقة تكشف، إلى جانب غيرها من الصور والمخطوطات، مدى غنى الأرشيف الذي يحتفظ به حسن السدادي وحرصه على ربط حاضر القرية بماضيها العريق.
ولم يكن لهذا المشروع الثقافي أن يرى النور بهذه القوة لولا ما حظي به صاحبه من دعم معنوي ومادي من الحساب الخاص لعامل إقليم إفران الأسبق السيد جلول صمصم، الذي يشغل حاليًا منصب والي مدير عام للمديرية العامة للجماعات الترابية. هذا الدعم الذي جاء في وقته شكل دفعة حقيقية لمبادرة السدادي، وأعطى إشارات واضحة على أهمية تشجيع مثل هذه المشاريع الفردية ذات القيمة التراثية والثقافية. الإشادة بمثل هذه المبادرات المؤسساتية تظل في محلها، لما لها من أثر مباشر في تعزيز حضور الثقافة المحلية وفتح المجال أمام طاقات إبداعية لتترجم حبها للأرض والذاكرة إلى أعمال ملموسة.
المكان الذي يحتضن المتحف والبستان العائلي للسدادي يزيد التجربة غنىً وخصوصية، إذ يقع المنزل وسط بستان غنّاء مزروع بأشجار حب الملوك إلى جانب أنواع مختلفة من الأشجار المثمرة، في موقع يطل على القرية من علو، مما يمنح الزائر مشهدًا بانوراميًا فريدًا. هذه الخصوصية تجعل الفضاء أكثر من مجرد متحف أو مكتبة منزلية، بل وجهة تستحق الزيارة، حيث يلتقي التاريخ بالفن والطبيعة في مشهد متكامل.

تجربة حسن السدادي تلقي الضوء على قدرة الأفراد على صنع مبادرات ثقافية ذات قيمة، بعيدًا عن الدعم المؤسساتي أو الرسمي، وتعكس كيف يمكن لشخص واحد أن يحول مسار حياته بعد التقاعد إلى مشروع ثقافي وفني متكامل. فهو لم يكتف بالكتابة ولا بالشعر، بل اختار أن يترجم حبه لقريته ومحيطه الطبيعي في مبادرات ملموسة، جعلت من منزله فضاءً مفتوحًا على الذاكرة والثقافة والفن.
بهذا المسار المتعدد الأبعاد، يصبح حسن السدادي أكثر من مجرد موظف متقاعد أو كاتب محلي، بل شخصية ثقافية تمثل امتدادًا لذاكرة جماعية وواجهة لإبداع فردي متجدد. وهو ما يجعل قصته مصدر إلهام للعديد من الفاعلين المحليين الذين يسعون إلى خدمة مجتمعاتهم بوسائل بسيطة، لكنها عميقة الأثر، ومثالًا حيًا على أن العطاء لا تحده مراحل العمر ولا توقفه حدود التقاعد.