حين يغضب الشارع: قراءة في ديناميات التحول من الحقوق إلى التخريب بقلم يوسف باجا اخصائي نفسي ومعالج نفسي*
*حين يغضب الشارع: قراءة في ديناميات التحول من الحقوق إلى التخريب بقلم يوسف باجا اخصائي نفسي ومعالج نفسي*
*المقدمة*
يُعتبر الاحتجاج السلمي إحدى الوسائل الحضارية للتعبير عن المطالب الاجتماعية والسياسية، حيث يجسد ممارسة ديمقراطية تمنح المواطن فرصة لإيصال صوته. غير أنّ مسار هذه الاحتجاجات قد ينقلب في لحظة من التعبير السلمي إلى سلوكيات عنيفة، تتمثل في الشغب والتخريب والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة. هذا التحول لا يعكس فقط توترًا داخليًا لدى الأفراد، بل يكشف أيضًا عن اختلالات بنيوية في المجتمع. وتزداد خطورة هذه الظاهرة حينما تكون الدولة مقبلة على تنظيم أحداث كبرى مثل كأس العالم، إذ تتحول أعمال الشغب إلى رسالة سلبية للعالم الخارجي، بما يسيء إلى صورة البلاد.
أولاً: المنظور السيكولوجي للتحول من السلمية إلى العنف
1. *الإحباط والعدوان*
نظرية الإحباط–العدوان تفسر أن تراكم الحرمان والشعور بالظلم يولّد سلوكًا عدوانيًا، خصوصًا حين يفشل الاحتجاج السلمي في تحقيق أهدافه.
2. *سيكولوجية الحشود (Le Bon)*
الذوبان داخل “العقل الجمعي” يجعل الفرد يفقد جزءًا من وعيه الذاتي، فيتصرف بطريقة مغايرة لما كان سيفعله منفردًا، وهو ما يسهل انزلاقه إلى العنف.
3. *العدوى العاطفية*
الغضب والخوف مشاعر تنتشر بسرعة وسط الحشود، مما يحول الطاقة الانفعالية إلى سلوك جماعي قد يتجه نحو التخريب.
4. *عقلية القطيع (Herd Mentality)*
عندما يبدأ بعض الأفراد في ممارسة التخريب، يتبعهم الآخرون بشكل آلي بدافع التقليد أو الخوف من العزلة. هكذا يتضخم العنف ويتحول إلى سلوك جماعي.
5. *التبرير النفسي (Bandura)*
الأفراد قد يبررون العنف باعتباره “الوسيلة الوحيدة” لسماع صوتهم، فيلجؤون إلى آليات تسمح لهم بتجاوز الشعور بالذنب مثل إلقاء اللوم على الدولة أو تصوير العنف كدفاع عن الحق.
ثانياً: *المنظور السوسيولوجي*
1. *أزمة الثقة المؤسساتية*
غياب قنوات حوار فعالة بين الدولة والمجتمع يولّد فراغًا سياسيًا، فتتحول المطالب من صيغة التفاوض إلى صيغة الضغط عبر الشارع.
2. *الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية*
ارتفاع البطالة والفقر يخلق حالة من الحرمان النسبي، حيث يشعر الأفراد بأنهم مقصيون مقارنة بفئات أخرى، مما يغذي اللجوء إلى العنف كتعويض رمزي.
3. *جيل Z والتحولات الرقمية*
وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في تعبئة سريعة للاحتجاجات، لكنها في الوقت نفسه غذّت ثقافة العنف من خلال انتشار مقاطع التخريب بشكل فيروسي، ما جعلها تُقدَّم أحيانًا كرمز للشجاعة أو البطولة.
4. *ضعف الوعي بالحقوق والواجبات*
غياب التربية الحقوقية والتنشئة المدنية يؤدي إلى خلط بين الحق المشروع في الاحتجاج والاعتداء على الممتلكات. كثيرون يرون أن المطالبة بالحقوق تبرر أي وسيلة، دون إدراك أن الحقوق تقترن بالواجبات.
5. *تشويه صورة البلاد في السياق الدولي*
حين تكون الدولة على موعد مع حدث عالمي مثل كأس العالم، يصبح الاحتجاج العنيف عاملًا مضرًا بالبلاد أكثر مما هو ضاغط لصالح المطالب. فالمشهد التخريبي يُقرأ خارجيًا كدليل على غياب الاستقرار، مما يضر بالاستثمارات والسياحة والصورة الرمزية للدولة.
ثالثاً: التفاعل بين السيكولوجي والسوسيولوجي
التحول من السلمية إلى العنف ليس مجرد انفعال فردي ولا مجرد نتاج لبنية اجتماعية هشّة، بل هو تفاعل معقد بين الاثنين:
الإحباط النفسي يتغذى من الحرمان الاقتصادي.
عقلية القطيع تتعزز في ظل غياب الثقة في المؤسسات.
العدوى العاطفية تنتشر بسرعة عبر الوسائط الرقمية.
ضعف الوعي بالحقوق يضاعف فرص تبني العنف بدل الحوار.
وتبقى النتيجة النهائية: صورة سلبية للوطن أمام العالم.
*الخاتمة*
يظهر من خلال هذه القراءة أن الاحتجاجات العنيفة هي نتاج لتفاعل سيكولوجي–سوسيولوجي متشابك، حيث يلتقي الإحباط والانفعال مع الهشاشة الاقتصادية وضعف الثقة بالمؤسسات. وإذا كان الاحتجاج السلمي حقًا مشروعًا، فإن تحوله إلى شغب لا يخدم المطالب بقدر ما يضر بالصالح العام ويشوّه صورة البلاد دوليًا، خصوصًا في سياق حساس مثل تنظيم كأس العالم.
لذلك، يظل الرهان الحقيقي هو الاستثمار في التربية على المواطنة، تقوية الوعي بالحقوق والواجبات، وفتح قنوات حوار فعّالة تسمح بتصريف الطاقة الاحتجاجية في مسارات سلمية وبنّاءة، تحفظ صورة الوطن وتدعم استقراره.