بقلم الشيخ: عبد الغني العمري الحسني.
العقل العربي ومآلاته -35-
العقل والإلحاد
إن شطرا من شباب الأمة، عندما لم تقبل فِطَرهم التدين العام، ولا استساغت عقولهم الخطاب الديني الشائع، نبذوا التدين وراء ظهورهم، فرماهم المغرضون من تجار الدين بالإلحاد، ولم يعلموا بذلك أنهم يبترون عضوا لا يُستغنى عنه، من جسد الأمة المثخن. بل إن ما زاد الأمر استفحالا، هو تصديق هؤلاء الشباب أنفسهم لإلحادهم؛ ظنا منهم أن الدين هو ما تركوه. والحقيقة هي أن جل الشباب، أقرب إلى حقيقة الدين من الفقهاء المترسمين، رغم كل شيء؛ ولكنهم لا يعلمون.
إن الإلحاد بالمعنى الاصطلاحي الحديث، هو التعطيل بالمعنى القديم. وهو أمر يعرض للعقل عندما يعمى عن إبصار أدنى بصيص من النور. فلا يبقى له من شهوده إلا ظلمة العدم الأصلية، مع وجدانه الباطني الغيبي. وهذا أضعف حظ يكون من النور في الناس. وأما الظلمة التامة، فلا تصح لأي مخلوق؛ لذلك فإن الجزم بعدم الإيمان التام من الملحد، لا يصح أيضا. ولو تنبه زاعم الإلحاد إلى هذه الحقيقة، لصار مؤمنا من جملة المؤمنين؛ ولكن عقله في الغالب يكون أضعف من أن يخوض في هذه المعاني.
ولو تأملنا في الإلحاد، لوجدناه متعلقا بالنفي؛ والنفي شطر كلمة التوحيد الذي هو "لا إله". وله من المراتب صرافة الذات. فهو من جهة الحقائق -لو صح لصاحبه وهيهات- أعلى من التوحيد؛ لأن التوحيد نفي وإثبات "لا إله إلا الله". والنفي والإثبات هما أكمل من جهة الشهود والعلم؛ وهما يعودان إلى الألوهية (المرتبة) لا إلى الذات. والألوهية سارية في كل المظاهر، والتي منها متوهم الإلحاد نفسه. وعلى هذا، فإن الملحد مؤمن (مشاهد) بتجلّ من تجليات الألوهية، من غير أن يشعر. وكما أن الثقب الأسود في الفضاء يمتص النور، فلا تظهر له صورة في الخارج، فإن الملحد يبطن فيه الإيمان، فلا يظهر فيه شيء منه. ولهذا، فإن كل من يزعم أن عبدا من العباد، يكون ظلمة خالصة، فإنه يكون جاهلا بحقيقة الأمر، ظالما لمن يحكم عليه من العباد.
إن التساهل في الإطلاقات، كما نرى في زماننا، من غير تمحيص، قد جعل الناس يتوهمون الإلحاد، أو يرمون به غيرهم على غير هدى. وكم من ملحد عند الناس، لا علم له بالإلحاد وليس له من العقل ما يجعله ملحدا؛ وإنما قد يكون إنسانا حيوانا غلبت عليه غرائزه إلى الحد الذي أنسته ما سواها. فأهمل الدين وما ينفعه في الآخرة، إلى الحد الذي صار كمن لا دين له بحسب الظاهر. وهؤلاء، قد ينصلح حالهم لسبب من الأسباب في الغالب مع تقدمهم في العمر، فيقال عنهم إنهم عادوا إلى الإيمان بعد إلحاد؛ وما ثم إلحاد في الحقيقة.
إن الكلام عن الإلحاد، من غير تدقيق، هو من السعي في الناس بالإفساد؛ لأنه يدعو في الحقيقة إلى الإلحاد ولو من غير قصد. وإن الرضى بما عليه أهل الدين في زماننا في المقابل، من نفاق وانحراف، هو إلحاد بالمعنى القرآني الأصيل. وإن نحن أردنا أن نعيد اللفظ إلى معناه، فإننا سنحكُم بإلحاد الفقهاء الساكتين عن الحق، ومن تبعهم من القطعان التي تقتات على المخادعة والنفاق، لا على المساكين الذين تتقاذفهم الفتن، ولا من معين لهم إلا الله.
والمؤمنون الذين يرون إيمانهم من أنفسهم (صادرا عنهم)، هم أيضا ملحدون في نظر العلماء الأحقاق؛ لأن الإيمان (وهو نور) من الله لا من النفس. وما كل ما ظهر في محل، نُسب إلى ذلك المحل نسبة خلق أو ملكية. وفي أمثال هؤلاء، من أهل الإيمان المجمل (الإسلام)، يقول الله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17]. ومع هذا التنبيه الإلهي الصريح، فإننا نجد جل المسلمين يمنون على الله بإيمانهم، ويرون أنهم "يستحقون" منه المثوبة من غير أدنى ريب. وهم عند أقل بلاء قد ينقلبون شياطين، لا يتورعون عن فعل أكبر المنكرات والنطق بأشنع العبارات.
أما ضعاف العقول الذين يتناولون مسألة وجود الله، ويريدون البرهنة عليها، فهم منكوسون معكوسون؛ لأن الله لا يتعلق به الشك سبحانه، كما ذكرنا ذلك في فصول سابقة. وإن كانت عقولهم لا تتمكن من تمييز هذا المعنى، فهذا يعني أنهم معاشيون، عليهم أن يشتغلوا بما يحسنون من تجارة أو فلاحة أو غير ذلك. فهو أفضل لهم وأجدى!...
والشباب الذين نراهم منصرفين عن الدين، علينا أن نبيّن لهم أن الدين ليس هذا الذي يرون أو يسمعون؛ وإنما عليهم بذل الجهد من أنفسهم ليتعرفوه. وربما قد يكون هؤلاء المتمردون أفضل حالا مستقبلا، من أولئك الذين مروا من تحت أيدي الفقهاء المقلدين، فعادوا لا يصلحون لشيء. يكررون المقولات، ويتقربون إلى الشيوخ، ويعيشون في أقفاص داخل أقفاص، إلى يوم يبعثون!...
أما الفلاسفة الملحدون، فيصح الكلام معهم، إن كانوا يتحلون بالإنصاف؛ لأنهم يميزون المعاني، ويعلمون طرق الاستدلال. وهذا لا يعني أن البرهنة على وجود الله، كما هي شائعة، تنفع معهم؛ بل المطلوب هو إيقافهم على إيمانهم الذي لا يرونه فحسب. عندئذ سينهار إلحادهم المزعوم ويتداعى.
إن ما ذكرناه من أحكام الإلحاد، دليل على عموم حكم الوجود لكل شيء في الوجود، حتى النفي نفسه. نعني أن العدم نفسه لا يكون مطلقا؛ ونعني بالعدم هنا العدم التام الذي هو المحال. فحتى هو، قد دخل في الوجود بأدنى درجات الدخول، والتي بها يُعلم ويشار إليه. كل هذا، من رحمة الله التي وسعت كل شيء، كما ذكر الله تعالى في قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156].